18 أبريل 2012

ذهبوا للبحث عن إنسان بدائي فوجدوا حضارة بكامل نضجها

شذى مصطفي-جريدة الشرق الاوسط-الخرطوم

ظل البروفيسور وليام آدامز أستاذ علم الإنسان في «جامعة كنتكي» الأميركية لسنوات، يحلم بأن يترجم كتابه الضخم Nubia, Corridor to Africa الذي نال عنه عدة جوائز، الى اللغة العربية، لإحساسه بضرورة أن يعرف النوبيون خاصة، والسودانيون عامة عظمة تاريخهم.
بالنسبة لوليام آدامز، فإن كتابه «النوبة رواق أفريقيا» هو «إنجاز عمره ومولوده الذي لا يحب سواه»، وتحقق حلمه وخرجت الى المكتبات أخيرا ترجمتة العربية، التي قام بها الدكتور السوداني محجوب التيجاني محمود أستاذ علم الإجتماع في ولاية تينسي الأميركية، حيث تفرغ ثلاث سنوات لترجمة الكتاب المكوّن من ألف صفحة، ويصفه دكتور محجوب بأنه أهم وأشمل كتاب عن تاريخ الممالك النوبية القديمة بشمال السودان والسودان ككل، منذ نشأة الحضارة الإنسانية حتى بداية العهد الوطني.
مكث آدامز في شمال السودان سبع سنوات برفقة زوجته، كان خلالها رئيسا لحملة اليونسكو العالمية، التي بدأت عام 1959الى عام 1966، لإنقاذ آثار النوبة قبل أن تغمرها مياه السد العالى بأسوان، وهي أول حملة إنقاذ منظمة من العالم، وجاءت نتيجة لدعاية هائلة نجحت في ضم أربعين بعثة، تمثل أغلب أمم العالم الصناعية، وقام خلالها والفريق الذي يقوده باكتشاف وتسجيل ما يزيد عن ألف موقع أثري.
ظلم ذوي القربى
أسرت أرض النوبة العليا ـ جنوب مصر وشمال السودان ـ بسكانها، ذوي البشرة الداكنة، خيال الإغريق والرومان، وكتب عنهم هوميروس «انهم أقسى أمة وأشد الرجال عدلا، المفضلون من الآلهة، وقرابينهم هي الأغلب تقبلا من كل تلك الضحايا التي يستطيع البشر تقديمها لهم». وجاء ذكر ملكها تهارقا في الكتاب المقدس. ومن العلماء الإسلاميين كتب عنها ابن خلدون مستعرضا تاريخها وجغرافيتها وكذلك المقريزى والمسعودي. إلا أن النصوص المصرية القديمة كانت تعامل هذه المنطقة على أنها فقيرة وغير جديرة بالحضارة، وبقيت مستغلة ومضطهدة من المصريين وفق ما شاءوا لذهبها وعاجها وعبيدها. ويعلّق البروفسور آدامز «أنه من الغريب أن علماء الآثار تأثروا بهذه النصوص الهيروغليفية وتأصّل سلوك المصريين القديم نحو النوبة في عقولهم، الى أن طغى كليا على المفهوم القديم للنوبة، كنبع منفصل للحضارة»، ولذا كانت دهشة علماء حملة اليونسكو كبيرة عندما وجدوا آثارا مختلفة لم تكن من أصل مصري. وهي من الكثرة بمكان، حيث انه بعد الموسم الأول للحفريات، وجد العلماء ما لا يقل عن أربع حقب ما كان لها معادل مصري.. فقد ذهب علماء الأنثربولوجيا للبحث عن إنسان بدائي فوجدوا «طفولة الحضارة ومراهقتها ونضجها!». ويكتب وليام آدامز «بينما كان السد العالي يسدل الستار على كتاب النوبة، كان يفتح في نفس الوقت، فصلا جديدا في دراسة آثار النوبة العليا، فعمليات البحث في بداية القرن الماضي، كانت جشعة، تبحث فقط عن القطع الفنية والكنوز، وبعدها جاءت عمليات تنقيب انتقائية عن القصور والمعابد الملكية والقبور، إلا أن حملة الإنقاذ هذه فرضت على علماء الآثار جمع أي قطعة صغيرة يعثرون عليها، وجاءت الدراسات وافية لشعب بأكمله». وقد عرف النوبيون بتلاقح ثقافتهم مع ثقافات الحضارات العالمية، فضمت الآثار الحمامات الرومانية والمعاصر، ومواد بنائية جيرية محمرّة اللون، وفخاريات بنفسجية وبرتقالية، حيث للفخار النوبي مكانه المشرّف في متاحف العالم، جنبا الى جنب مع الكتابة الإغريقية وطرائق الدفن المصرية، أما أقدم مدّون مكتوب بها فيرجع للألف الرابع ق. م، وبها من العصور الفرعونية والوثنية صروح لعبادة الآلهة، وأخرى رومانية، ثم الكنائس والأديرة وصوامع النساك المسيحيين، انتهاء بالصروح الإسلامية والمشيخات ومنشآتها التعليمية.
عمليات التهجير
يكتب البروفيسور آدامز عن عمليات التهجير، إبان فترة بناء السد العالي الذي كان رمزا لسوء الحظ الجماعي، والذي سيؤدي الى تهجير 53 ألفا من النوبة السودانيين، و48 ألفا من النوبة المصريين، وقال إن عملية بناء السدّ لم يستشر فيها الجانب السوداني. وأدّى غضب النوبيين الذين باتوا يرون التدمير الوشيك لديار أجدادهم ومصالحهم، الى إزاحة الرئيس السوداني إبراهيم عبّود عن منصبه عام 1964، وبعض الحالمين الذين كانوا يستبعدون مفارقة أرضهم، كانوا يأملون أن مياه السد لن تغمرهم، وأن المشروع لن يتم أبدا، وأن السوفييت سيخذلون المصريين، وبعضهم تمنى سرا عودة الاستعمار لينقذهم، وآخرون وصلوا لدرجة تخيل أن الإسرائيليين سوف يفجرون الخزان حال اكتماله. وعندما بدأت مياه السدّ تتسرب الى المناطق رويدا رويدا، لم يكن هناك بد من الرحيل وصارت قطارات التهجير التي تحمل آلاف السكان، حدثا يوميا مألوفا. ولم تتوقف التوديعات الأخيرة التي صحبت الرحيل الأبدي، وكتبت الأشعار الحزينة على جدران المنازل المهجورة والتي أذابتها فيما بعد مياه السدّ، لينقل النوبيون الى حلفا الجديدة، وهي منطقة بعيدة كل البعد، عما ألفوه من أشجار نخيل ونيل منساب، وفوق كل هذا حضارة امتدت لآلاف السنين.. ويتساءل البروفسور وليام آدامز، في نهاية كتابه «ترى هل سيكون هذا الشتات الذي فرض على النوبيين سببا لتوحدهم في المستقبل، كما كان مع اليهود والأرمن وأقليات أخرى؟ هل سينجحون في صون هوية انفصالية بسبب الظروف المتغيرة للقرن العشرين»؟


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق