18 أبريل 2012

نوبييون بين الموطن و المهجر

بقلم الأستاذ/ عبد الرحمن طه
(أخصائى اجتماعى نوبى عاش فى الموطن والمهجر)


مرت 48 عاما على تهجير أهل النوبة من قراهم فى 18 أبريل عام 1964 ألى صحراء كوم امبو و التى كانت تسمى بوادى الجن.
مستعيدا الذكريات.. هل كانت هجرة سعيدة أم مؤلمة؟؟؟
فقد خرجنا من مجتمع مهمش و مهمل الى صحراء بعيدا عن الوادى و مناخه و عادات سكانه و ذلك لتنفيذ مشروع اقامة السد العالى لخدمة أهل الشمال و امدادهم بالماء و الكهرباء. و كأنه مكتوب على النوبيين أن يتحملوا وزر اقامة السد و من قبل اقامة خزان أسوان و تعليته ثلاث مرات. اهتمت الدوة بانقاذ المعابد و التماثيل و أهملت البشر و أسكنتهم فى مكان لا يتناسب مع عاداتهم و تقاليدهم و ظروف المعيشة التى تعودوا عليها؛ فخرجوا من نقرة الا همال فى بلادهم الى حفرة الاقامة فى صحراء كوم امبو رغم انفهم فى وقت لا ينفع فيه الشكوى و لا البكاء- و فى عجالة اجتزت من الذكريات- مواقف عشتها كشاهد عصر سواء كانت فى توشكى أو مهجر كوم أمبو.
كان النوبيون يعيشون فى بيوت واسعة و تقع أراضيهم الزراعية امام البيوت و كذلك النخيل و مجرى النيل أمام اعينهم و تكاد تكون ظروف الناس متساوية فيتساوى العمدة مع الفقير. يزرعون الذرة العويجة بالصيف و القمح بالشتاءفة ملكية صغيرة آلت اليهم من السلف؛ و كذلك محصول البلح. و كانت بالكاد تكفي للاستهلاك الأسرى و لم تكن زراعة مستقرة من عامل غرق المحاصيل الزراعية و انسحاب المياه عن المحاصيل الشتوية نتتيجة قفل بوابات خزان أسوانو ارتداد المياه لتصبح البلاد مخزن للمياه و تنكسر الجسور الترابية و فجأة نجد أن المياه و قد جرفت الأراضى و المحاصيل قبل أن يتمكن الأهالى من جمعها لتصل المياه الى المنازل لتزيد معاناتهم. كانوا يزرعون المحاصيل الشتوية فى مناخ شديد البرودة دون جدوى بعد أن تجف اعواد القمح و سنابلها قبل النضوج لانسحاب المياه عنها ليخسروا بذلك. و تعويضات الدولة تصل بعد مدة ليست بالقصيرة وبمبالغ ضئيلة تاركة اياهم فى الجوع و الحرمان مما أدى الى فقدان الثقة فى الزراعة و اتجاه تفكيرهم الى الريف المصرى فى الشمال و يمنونة انفسهم بالسفر. و لم يعرفوا فى ذلك ال أوقت لا القاهرة و لا الاسكندرية و انما الريف المصرى الذى علافوا عنه من كتب المطالعة و يزدادون شوقا للسفر كلما شاهدوا الباخرة المتجهة الى الشلال.
و السؤال الذى يطرح نفسه...هل النوبيون مزارعون؟؟؟؟
الاجابة نعم.. و الدليل على ذلك أنهم كانوا يستيقظون مبكرين و يصطحبون أبناءهم ليزرعوا أراضيهم.الرجال و النساء و الاطفال يزرعون و تنطلق الحيوانات تقتات من حشائش الأرض ليستعيدوا صحتهم بعد معاناة الجزع التى تصل اليهم أيضا. و فى تحدى للظروف تستمرالحياة طبيعية رغم قسوتها فى ظل عدم الاستقرارحتى فقدوا الثقة فى الزراعة و اتجهوا الى العمل فى الشمال باحثين عن الرزق ليعترضهم حاجز اللغة و الثقافة.
وعن التعليم لم يكن هناك سوى مدرسة ابتدائية واحدة فى قرية عنيبة و باقى البلاد بها مدارس الزامية و يلتحق خريجى المدارس الالزامية بالمدرسة الابتدائية بعد اجتياز اختبارات صعبة و ذلك لتقليل عدد المقبولين حيث أن معظم التلاميذ يلتحقون بالنظام الداخلى لبعد المسافة مما يقلل من فرص التعليم. و من يرغب فى التعليم عليه أن ينحت فى الصخر حتى ينال الشهادات العليا فى ظل السياسة التعليمية السيئة. و حظيت الفتيات بالنصيب الأكبر من المعاناة فلم يكن من السهل عليها استكمال تعليمها فى تلك الظروف رغم وجود المقومات اللازمة لديهن من ذكاء و عزيمة.
و فى الصحة أهملت البلاد حيث لا يوجد مستشفيات و لا وحدات صحية. و اعتمدوا على وحدة صحية متنقلة على باخرة و بها طبيب واحد تجوب البلاد من الشلال الى حلفا مرة واحدة فى السنة. و فقد العديد و العديد من النوبيين حياتهم نتيجة عدم وجود العناية الطبية اللازمة.
و نصل الى الأمن فنجد أن بلاد النوبة كانت مستقرة أمنيا خالية من الاشتباكات و السرقة و القتل و لم يتم الابلاغ عن حوادث فى مركز شرطة عنيبة حتى الهجرة. و الخلافات ان وجدت كانت تحل بمعرفة كبار العائلات بطريقة العرف و التقليد. و توارثوا ذلك الجيل بعد الجيل و لذا عرفوا بصفى الأمانة و المحبة.
و لكن تصورى اذا ما بقى الحال على ما كان عليه و استمرت حالة الاهمال و التهميش و اسمرت هجرة الشباب الى الشمال كانت الأوضاع ستزداد سوءا اذا لم يتم الاهتمام بالتعليم و الزراعة و الصحة و تيسيرسبل الحياة.
و ننتقل بعد ذلك للحياة فى مهجر كوم أمبو الذى هجرنا اليه دون رغبتنا و لا يستطيع أحد فى ذلك الوقت أن يبدى رأيه فكان مكتوب علينا العيش على أرض ليست كأرضنا.
أرادت الحكومة أن تكون المساكن على نمط مساكن القرية و لكنها ضيقة و شيدت على أرض طفلية تعرض البيوت الى التصدع باستمرار و تكلف الكثير لاصلاحها دون جدوى لتعاود التصدع مرارا. و لم يراع آنذاك أن الأسرة ستتكاثر و تنتج نزاعات بين افراد الاسرة لعدم وجود أماكن للتوسعات العمرانية. و ظهرت مشكلات بناء منازل للمغتربين ممن سافروا للشمال للعمل الذين وعدتهم الحكومة ببناء مساكن لهم.
و لا شك أن التعليم و الصحة قد شهدوا تأثرا كبيرا بنهضة تعليمية و ثقافية حيث أنهم اقتربوا من المدينة التى بها خدمات و سهولة المواصلات التى كان لها تاثير ايجابى. و قد اتيحت الفرصة للفتيات للتعليم و يسرت لهم الحصول على اعلى الشهادات .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق