18 أبريل 2012

ماتت جدتى و لايزال قلبها يدمى

بقلم / مروة زكى 

فوق الرمال الناعمة على شاطئ النيل وجدتها تجلس تعبة تتألم ، فتعجبت ؛فما الذى أتى بها الى هنا. حاولت أن أساعدها على النهوض و لكنى لم أقوى على ذلك فانتقل احساسها بالألم الى داخلى مضاعفا. فحملت احساسها بالألم مضافا اليه احساسى بالعجز عن مساعدتها، حتى مر بنا صديق و رأى ما نحن به فتبسم و نادى على أصدقائه ليساعدوها. فطلبت جدتى منهم أن يضعوها على السرير بجانب النهر و أبت أن تذهب الى مكان آخر. فحملوها و وضعوها فى سريرها و عدلوا وضعيتها مراراها بما يجعلها أكثر راحة. فما كان منها الا أن تبسمت و دعت ربها لهم.
صحوت من نومى متعجبة لما رأيت فجدتى ماتت منذ أربعة أعوام. و المكان الذى وجدتها فيه لم أرها فيه من قبل فقد كانت تعيش فيه منذ عشرات السنين قبل أن تغمره المياه بعدما بنى السد العالى؛ و قبل أن أولد أنا و أصدقائى فى الحلم. و ما الذى أتى بهم الى هذا المكان و هو لم يعد موجودا من الأساس . و لبثت حائرة فى كل ما رأيت.
و لكن سرعان ما بدأت تنهال على رأسى كل تلك الصورللآلام التى كانت تعيش بها و الدموع التى كانت تنهال على وجنتيها عند التفكيرفيما فقدت من وطن كان بمثابة الحياة لها و لعشيرتها. فما كان النيل سوى شريان الحياة لهم بما يحمله لهم من الخير و الرزق. و كان لهم الطبيب النفسى و دواء الجروح يشكون له أحزانهم. و لا ينسونه من أفراحهم فيمشون اليه بالزفة حاملين اليه العروسان ليبارك فرحتهم، ثم يحملون اليه الوليد ليبدأ حياته منه، و نسمات هوائه التى يتنفسونها هى ما تبقيهم أحياء ليرتووا من مائه؛ و من طمى ضفافه يرزقون.
و بالطبع لم تكن الحال هكذا فى ما استبدلت به تلك الحياة. عشت معها فى قرية من قرى النوبة بالتهجير داخل ما يشبه المعسكرات. فالبيت النوبى التى عاشت فيه بطابعه المميز للحضارة النوبية و بحجراته الصيفية منها و الشتوية؛ و رسوماته الفنية التى تعكس روح الفنان التى تعيش داخل كل نوبى؛ و رائحة الأصالة التى تعطر جنباته فتزرع ذلك الحنين داخل كل من يدخل عتباته؛ لم يعد هو نفسه ذلك فقد اختزل الى حجرات متلاصقة لا يفصله عما يجاوره سوى جدار لا يحترم خصوصية اهله. دور خنقت اهلها فما عادوا يشعروا انهم فى بيوتهم.
و حظيت الأراضى الزراعية بنصيب وافر من التغيير بعدما فقدت ما يمدها بالحياة. فتجد النيل بما كان يمده من مظاهر الحياة اختفى من الصورة و ظهر مكانه ترعة صناعية يمر فيها الماء و كأنه موظف يؤدى عمله فى فتور غير عابئ بما خلق لأجله. و فقد ذلك الارتباط بالماء؛ و اقتصر فقط على تذكره فى الأغانى الحزينة التى كانوا و ما زالوا يسترجعون فيها ذكرياتهم.
و لأن ما يميزالبشر عن بعضهم البعض هو مدى تحضرهم، و الحضارة ليست فى المعمار و العلم فقط و انما فى رقى الموروثات الاخلاقية والانسانية وهو ما تفتقده معظم الحضارات و ان كانت لها تاريخ فالعلم وحده لايبنى الحضارات. و الناظر الى الفارق بين الصورتين فسيجد أنه ليس بفارق مادى و حسب، و انما فارق روحى و فارق فى عنصر هام من حياة الانسان ....انها روح الانتماء ما جعلتنى أرى جدتى بعد وفاتها بسنوات فى أحلامى لتقول لى تلك هى بلدك التى لم تريها و لم لكنك منها و هى منك..
الأصدقاء الذين قاموا بمساعدتها و مسح ألمها و رسم البسمة على شفتيها ما كانوا الا أولئك الجنود الذين عرفتهم منذ وقت قليل و لكنهم حقا اسعدونى لاعطائى الفرصة و اشراكى معهم فى القتال ضد كل من يسلبنا ضحكتنا..فأصبحت أسعد بصحبتهم فى واقعى و أحلامى....


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق