نوبى على الشاشة
أسمر البشرة .. أبيض القلب .. خفيف الدم ..
هكذا يمكنك رؤية "النوبى" على شاشة السينما ثم التليفزيون لاحقا على مدار مشوار السينما و التليفزيون المصريين دون أن تحاول تلك الأعمال التعمق بشكل أكبر فى شخصية الانسان النوبى أو تقترب من البيئة النوبية ذات الموروثات الخاصة الشديدة الخصوصية .
ربما بدأ الأمر كله بالفنان (على الكسار) الذى يعتبر من أوائل من قدم شخصية النوبى على المسرح المصرى حينما ابتدع شخصية الرجل النوبى البسيط طيب القلب سليم الطوية "عثمان عبد الباسط " الذى يقوم بالأعمال البسيطة و له لكنة خاصة و طريقة مميزة فى الكلام نقلها بعد ذلك إلى عالم الشاشة الفضية فى أفلام مثل "سلفنى 3 جنيه" "على بابا و الأربعين حرامى" و " ألف ليلة و ليلة" و لا ننكر أننا عشقنا الرجل و ضحكنا من قلوبنا معه و مع خفة دمه دون أن نتلمس أبعاد أخرى لشخصية النوبى البسيطة التى قدمها الكسار فى أعماله .
كان الكسار هو الوحيد الذى قدم النوبى كبطل للعمل بعدها لم تكن تستطيع أن ترى النوبى فى سينما الأبيض و الأسود سوى كشخصية ثانوية تقوم بالأعمال البسيطة كالخادم و السفرجى و البواب و هكذا تم تنميط شخصية الانسان النوبى فى السينما عبر عقودها الطويلة دون أن تحاول أن تقدم الانسان النوبى بشكل مغاير أو أكثر عمقا أو تبحث له عن دور مختلف فى المجتمع و لكن رغم ذلك استطاع بعض الممثلين ذوى الحضور الخاص فى فرض نفسه على الشاشة رغم بساطة الدور الذى يقدمه ليسطع وسط النجوم بدوره البسيط كبواب أو سفرجى ، هل يمكن أن ننسى الفنان " محمد كامل" الذى ربما لا يعرف أحدنا اسمه الحقيقى و الذى اشتهر فى أفلام الأبيض و الأسود بدور "عم ادريس" و الذى استطاع بخفة دمه و حضوره أن يفرض وجوده بجانب النجوم مثل شادية و صباح و غيرها ، السفرجى و البواب كانتا حكرا على الرجل النوبى تقريبا فى كل أفلام ما قبل 1952 ، هل كان ذلك مجرد تنميطا للسينما أم هو تمثيلا للطبقية الموجوة قبل الثورة و تهميش بعض الطبقات المكونة للشعب المصرى ، و السؤال الأهم لماذا لم يتغير ذلك لاحقا بعض تغير المناخ فى مصر بعض ثورة 1952 ؟
كل ما تستطيع أن تستنبطه من سمات شخصية الانسان النوبى من خلال كل تلك الأعمال السينمائية أن النوبى رغم سمارة بشرته إلا أنه شديد الطيبة و النقاء أبيض القلب ، خفيف الدم ، و الوفاء و الأمانة من أهم طباعه الخاصة التى تكاد تميزه عن الباقيين و ليس له فى الخبث أو الالتواء ، هكذا شاهدنا الانسان النوبى من عثمان عبد الباسط الى عم ادريس و استمر نفس النمط عبر الأعمال التالية دون أى تغيير يذكر و دون الاقتراب من البيئة النوبية نفسها إلا نادرا ، هنا نذكر أحد الأفلام النادرة التى حاولت الاقتراب من البيئة النوبية نفسها و لكن بشكل شديد السطحية و من خلال الاطار الكوميدى التقليدى فى فيلم " الحقيقة العارية" لايهاب نافع و ماجدة و الذى تدور أحداثه خلال بناء السد العالى فنرى شخصية الفنان "عبد المنعم ابرهيم" عندما ترسو السفينة النيلية بجانب احدى القرى النوبية فيفتن الرجل بفتاة نوبية و يتزوجها هنا نرى من بعيد إشارة إلى خصوصية الحياة فى القرى النوبية و إلى وجود عادات خاصة دون أن يقترب العمل منها بل اكتفى كالعادة بالاشارة للنوبى باللغة الغير مفهومة و الجلباب الأبيض فى اشارة نمطية لطيبة القلب.
هل يمكن التحدث أعمال نادرة تقدم لنا بيئة خاصة تنتمى الى جنوب الصعيد مثل أفلام "الطوق و الأسورة" و " فى العشق و السفر" و "عرق البلح " أعمال تنتمى الى عالم النوبة أم أنها تتحدث عن عوالم أخرى مهمشة و لكنها تختلف عن النوبة بما تحمل من مفردات أخرى خاصة سواء فى تركيبة الشخصيات أو فى البيئة و العادات و الموروثات ، تتحدث تلك الأعمال عن قرى بعيدة عن المدنية و هى فى الأغلب قرى تنتمى الى جنوب الصعيد الجوانى و ليس إلى النوبة .
نصل هنا إلى نفس النتيجة التى بدأنا بها و هى تقديم السينما لشخصية النوبى بنفس الشكل النمطى و التهميش الذى ربما لم يكن من نصيب النوبة فقط بل هو من نصيب العديد من المجتمعات المصرية الخاصة البعيدة عن بؤرة اهتمام السينمائى التجارى التقليدى كما هى بعيدة أيضا عن بؤرة اهتمام الثقافة المصرية الرسمية عبر العصور المختلفة نتيجة تهميش من الإرادة السياسية عبر الأنظمة المختلفة فنفس التهميش يمكنك أن تراه نحو البدو و السيناوية و عرب مطروح و الصعيد بشكل عام و الصيادين و السواحلية فإما تم تنميطهم أو تهميشهم بشكل عام ، وينتقل الداء هنا من السينما للتليفزيون بعدها فلا يمكنك أن تذكر النوبى بشكل مختلف عبر الدراما المصرية فهو كالعادة فى نفس الأدوار التى تم حبسه فيها فى السينما ، هنا نتذكر بشكل قوى الممثل الجميل "محمد الأدندانى" الذى قدم كالعادة أدوار البواب و السفرجى فى السينما و التليفزيون بالشكل الخفيف الظل المعتاد كما فى "حكايات ميزو" و "البيه البواب" و مسرحية"عش المجانين".
لم تحاول السينما و لا التليفزيون أبدا الاقتراب من البيئة النوبية و لا تقديم عملا فنيا خالصا يعتمد فى أبطاله على النوبيين أو تدور أحداثه فى النوبة أو أسوان و لم تحاول الخروج بالانسان النوبى من التنميط و التهميش فتقدمه لنا طبيبا أو مهندسا أو غير ذلك من الأعمال المختلفة ، كما لم تجرب مرة استغلال الأدب النوبى و تقديمه على الشاشة ، و حتى لم تحاول استغلال الموسيقى النوبية بشكل ما فى أعمالها رغم استطاعة عملاق مثل " أحمد منيب" من تقريب الايقاع و الموسيقى النوبية إلى عموم المصريين سواء من خلال المطرب النوبى محمد منير أو مطربين آخرين مثل علاء عبد الخالق ، لم تستطع تلك النوعية من الموسيقى أن تتسلل إلى الشاشة رغم حملها لحالة خاصة من الفلسفةو الشجن.
و عبر التليفزيون كان هناك إطلالة جديدة للجنوب عبر قناة أرضية خاصة هى "القناة الثامنة" استطاعت رغم ضآلة الامكانيات المادية أن تطل برأسها لتكون نافذة لهذا الجنوب المهمش من الوطن سواء جنوب الصعيد أو النوبة و رأينا لأول مرة المذيع و المذيعة السمراوين يقدمان بيئتهما الخاصة و من خلال بعض البرامج التى تقترب من التسجيلية أمكن للبعض أن يرى ما لم تقدمه السينما و التليفزيون بالشكل التقليدى و لكن لم تلبث أن سقطت الأرضيات بهجوم الفضائيات لتختفى القنوات المحلية ثانية و من بينها "الثامنة" نافذة الجنوب.
خلاصة القول أنك إن أحببت أن ترى النوبة فلا يمكنك أن تراها عبر الشاشة التى لم تقدم الواقع اليومى الذى يعيشه أهل النوبة البقعة الجميلة من جنوب الوطن ، و ما زال هناك الكثير من الكنوز التى يمكن تقديمها عن هذا العالم بما له من خصائص فقط تنتظر الفنان الحقيقى الذى يقترب منها ، أما بالنسبة للانسان النوبى فلن ترى سوى إنسان " أسمر البشرة .. أبيض القلب .. خفيف الدم.."
د. محمد محمود مقبل
طبيب و غاوى فن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق