مقدمه :
لا يمكن لأحد أن ينكر الدور المشرف والعظيم الذى قام به الدكتور ثروت عكاشه على الساحه الثقافيه المصريه فهو اول وزير لوزارة الثقافه المصريه التى نشأت عام 1958 وقد تم فى عهد الكثير من المشروعات الثقافيه الهامه نذكر منها على سبيل المثال :
أنشاء أكاديميه الفنون (بمعاهدها المختلفه) - أنشاء دار الكتاب والوثائق المصريه الجديده – تأسيس فرقه الموسيقه العربيه والفرقه القوميه للفنون الشعبيه - أنشاء مشروع الصوت والضوء فى (الهرم و الكرنك والقلعه )
وغيرها الكثير من المشروعات الثقافيه التى تبنها ورعاها فى تلك الفتره حتى اصبح وبحق أحد افضل من تولى مهام وزارة الثقافه المصريه أن لم يكون حقاً أهم وزير ثقافه مصرى.
اما دوره فى انقاذ اثار النوبه فيرويه فى كتاب (أنسان العصر الحديث يمجد رمسيس) الذى أصدرته هيئة الأثار المصريه عام 2008 ويروي قصة الحملة الدولية لإنقاذ آثار النوبة, كما يتضمن أيضا جزءا مهما وإن كان مجهولا عن جهود اخري لمصر في مجال انقاذ الآثار في العالم وهي تلك الحملة الخاصة بانقاذ مدينة البندقية التاريخية( فينسيا) بايطاليا, والتي قادها أيضا الدكتور ثروت عكاشة والذى ننقل منه هذا الجزء الموجود بالكتاب المذكور تحت عنوان (كنت شاهد على أنقاذ أثار النوبه )
______________________________________________
كنت شاهد على أنقاذ أثار النوبه
بقلم د. ثروت عكاشه
بعد أن اتخذت مصر قرارها الجسور بإنشاء السد العالي في أسوان عام 1954, كانت إقامة هذا السد إيذانا بخلق بحيرة فسيحة من المياه تغمر منطقة النوبة الزاخرة بآثار حضارتنا التي شدت إليها عيون العالم على مر العصور. وفي أواخر عام 1958 كنت أحمل مهام وزارة الثقافة التي كان من مسئوليتها الأولى الحفاظ على آثارنا القديمة بوصفها جزءا مهما من تراث الحضارة الإنسانية. وفي شهر نوفمبر زارني السفير الأمريكي يصحبه مدير متحف المتروبوليتان بنيويورك الذي بادرني قائلا: جئت أشتري واحدا أو اثنين من معابد النوبة المحكوم عليها بالغرق بعد بناء السد العالي. وقد أثارتني هذه الرغبة المفاجئة وضقت بأن يدور بخلد أحد أن يكون تراث أسلافنا مما يباع ويشترى. لذا سارعت بالقول معاتبا: كان جديرا بمتحف المتروبوليتان أن يبادر بالعون العلمي لإنقاذ هذا التراث الإنساني بدلا من التفكير في شرائه. وكان هذا اللقاء على قصره بداية ارتباطي بآثار النوبة. فرأيت أن أزورها مصطحبا معي الدكتور أحمد بدوي أحد كبار العلماء الأركيولوجين وأحد كبار مهندسي الآثار وأمضينا في هذه الرحلة أسبوعين. ولشد ما فزعت عندما اكتشفت أن ما كان يجري على أرض النوبة كان مقصوراً على تسجيل وتوثيق هذه المعابد على أساس أن هذا الجهد هو كل ما تتسع له إمكانات الدولة حينذاك. أحسست بهول المأساة وانتابني الذعر, إذ كيف يترك هذا التراث لتغمره مياه النيل ؟ كانت وزارة الثقافة في مصر بعد وليدة لايتجاوز عمرها ثمانية شهور, وكان إنشاؤها علامة من علامات الحيوية في نظام حكمنا الذي خص الثقافة بهذه الرعاية. لذا كان تفريطها في العمل على إنقاذ تلك المعابد يعد سُبة لايغتفرها التاريخ لنا.. وكان معي خلال تلك الجولة كتاب شائق للأديب الفرنسي الشهير بيير لوتي عضو الأكاديمية الفرنسية, كنت قد اشتريته منذ بضع سنين في باريس, جذبني إليه عنوانه الآسر (موت فيله) وكونه الطبعة الأولى الصادرة عام 1907, فكنت أقضي نهاري في مشاهدة أوابد العبقرية, وليلى تؤنسنا بصوت لوتي وهو يحدث عنها. وإذا أنا أجد الكاتب ممن يهيمون بتراث مصر ويقدسونه, وإذا هو يفزع لما نال هذا التراث من غمر المياه له بعد أن شيد خزان أسوان في مطالع القرن, وإذا هو يناشد المثقفين المصريين بأن يهبوا للذود عن تراثهم متخذا من غرق جزيرة فيله لؤلؤة مصر وإحدى عجائب الدنيا رمزاً لموت مصر القديمة وإيذانا بنهاية هذه الأمة التي خلقت أول حضارة في العالم وأروعها. على أنه أنهى كتابه بصرخة فاجعة يتمنى فيها على المصريين أن يهرعوا إلى الحفاظ على تراثهم الخالد.
كان المفروض أن تقوم وراء السد العالي بحيرة صناعية فسيحة تمتد حوالي ثلاثمائة كيلو متر في أرض مصر وحوالي مائة وسبعة وثمانين كيلومترا في أرض السودان, ويرتفع منسوب المياه إلى مائة وثمانين مترا فوق سطح البحر. وكان معنى هذا أن تغمر مياه البحيرة الجديدة جميع آثار بلاد النوبة المصرية والسودانية إلى الأبد.
ولم يكن مقدرا لمعبدي أبوسمبل وهما أكثر معابد المنطقة ارتفاعا أن يفلتا من هذا المصير الموجع, فقد كانت مياه التخزين وراء خزان أسوان لاتتخطى مائة وواحدا وعشرين مترا وهو نفس مستوى أرضية المعبد الكبير الذي يبلغ مائة وأربعة وعشرين مترا بينما كان متوقعا أن ترتفع مياه بحيرة السد العالي إلى مستوى مائة وثلاثة وثمانين مترا أي بزيادة ارتفاع قدره اثنان وستون مترا على مستوى بحيرة خزان أسوان, وهو ماكان يعني غمر المعبدين تماما.
وهكذا ضمت بلاد النوبة أملاً وقلقاً: أملا يتمثل في سد عال يوفر لشعب مصر الخصب والرخاء, وقلقاً على تراث حضاري عال مهدداً بالغرق والفناء. ولم يعد من الممكن أن نقصر تفكيرنا على بناء السد وحده, بل كان من الواجب أن يمتد تفكيرنا إلى إنقاذ آثار النوبة ومعابدها السبعة عشر. هكذا كانت الصورة في أواخر 1958: خطوات جادة تجري لإنشاء السد العالي وتسجيلات لآثار النوبة, وأيد مكتوفة أمام الخطر المحدق بآثار النوبة الغالبة, وحيرة عميقة في النفوس أمام هذا التساؤل: كيف لثورة يوليو 1952 أن تشتري رخاء المستقبل بالتفريط في معالم خالدة من تراث الماضي ؟ وكيف يكون مستقبلنا مشرقا إلا إذا كان امتدادا لماضينا العريق ؟ وهل يمكن أن يتحقق النمو الاقتصادي دون وعي ثقافي ؟ وهل يكتمل الوجه الحقيقي لثورة يوليو إذا شيدت السد العالي الذي يهدف إلى رفع مستوى معيشة الإنسان المعاصر في بلادنا دون أن تحافظ على أسمى ما أبدعه الإنسان في تاريخه البعيد ؟ وهل يتألق وجدان إنسان الحاضر إذا وجد مايشبعه من ماديات دون أن يجد إلى جانبه مايشبع حسه من روحانيات ؟ ومع كل يوم كان يقترب فيه وداع آثار النوبة كان الإحساس يتضاعف بوجوب عمل شيء من أجل إنقاذها حتى لايأتي هذا اليوم أبدا.. فما أجدرها أن تعيش آلافا أخرى من الأعوام.
وحين وقفت استعرض آثار النوبة متطلعا إلى معبدي أبوسمبل المنحوتين في جوف الجبل, متأملا معابد فيله ومتخيلا المياه وقد ابتلعت هذه الآثار أحسست حسرة شاملة تملأ نفسي وتدفعني إلى التشبث بهذه الآثار, وراودني مايشبه الحلم الأسطوري, وتراءى لي وأنا موزع النفس بين عالمي الصحوة والغفوة أن يداً عملاقة تندس في أعماق التربة وتزحزح هذه المعابد الشامخة من مرقدها وتصعد بها إلى قمم الجبال حولها, وتترك لمياه السد مكانا تتماوج فيه على هواها. ومع ثقتي في أن حكومتنا مشغولة بهموم فك قيود الفقر عن ملايين المواطنين بما لاتحتمل معه أن توفر من مالها وطاقتها المحدودين ماينقذ للبشر تراث أسلافهم, أخذت نفسي تسترجع ذكريات فترة أثيرة من حياتي حين أمضيت ماينوف على سنوات ثلاث أعمل ملحقاً حربيا بباريس كنت أتابع خلالها بشغف وإعجاب نشاط منظمة اليونسكو الوليدة, والتي كانت تشغل وقتذاك مبنى قريبا من سفارتنا, مؤمنا إيمان المتفائل بما يمكن أن تحققه هذه المنظمة السامية الأهداف من خير للبشرية في ميادين الفن والثقافة والجمال. وتساءلت بيني وبين نفسي هل يمكن لليونسكو أن يكون لها دور في إنقاذ آثارنا ؟ فقد رسخ في يقيني أن هذه المنظمة التي ينص ميثاقها على السهر على صيانة الآثار الفنية ذات الأهمية التاريخية هي الباب الوحيد المتاح الذي لامناص من أن نطرقه أملا في إنقاذ تلك الروائع على الصعيد الدولي, فهي القادرة على تفهم المخاطر الجدية على هذا المستوى من الرصيد الثقافي للإنسانية. وإذ كنت وقتها أعيش في عذاب القلق الذي يبعثه الإحساس بمواجهة (المستحيل) تساءلت لماذا لانمنح المستحيل فرصة كي يصبح محتملا.. أو أملاً ؟ فعزمت على أن أتصل لساعتي بمدير منظمة اليونسكو لأستوضحه الرأي وأشركه معي فيما أتردى فيه من حيرة, علي أجد عنده ما ينقذني منها, وأعلم منه مدى العون الذي تستطيع المنظمة أن تمنحنا إياه فيما إذا قدر لنا أن نأخذ في إنقاذ هذه المعابد. وإذا بي أعلم أن مساعد المدير العام لليونسكو المسيو رينيه ماهيه موجود في أديس أبابا فاتصلت به لتوي ليلقاني في طريق عودته إلى باريس, فحدد لي موعدا في مطلع شهر يناير 1959 ليلقاني بالقاهرة بين موعد طائرتين نظرا لارتباطه بالتزام رسمي في اليوم التالي بمقر المنظمة في باريس.
استقبلته بالمطار في الثامنة مساء لأصطحبه إلى مكتبتي بقصر عابدين, وكنت قد أشرت بإعداد خريطة ضخمة لمجرى النيل من وادي حلفا جنوبا حتى أسوان شمالا مبينا عليها المعابد السبعة عشر المنتثرة على ضفتي النيل لتكون تحت بصره. وكذا عرضنا صوراً فوتوغرافية مكبرة بارتفاع الحائط لكل معبدعلى حدة كي تكشف له عن أهمية الدور الذي يمكن أن تؤديه منظمة اليونسكو إذا ما شاركت في تنفيذ مشروع قد يغدو أعظم إسهاماتها في الميدان الثقافي. مضيت أشرح له قضية إنقاذ آثار النوبة, وكنت شديد القلق بينما أقترح عليه أن تعد منظمة اليونسكو حملة دولية لإنقاذ هذه الآثار تجمع فيها المساهمات المادية والعلمية التي لم أشك في أن الهيئات الثقافية في العالم ستبادر بتقديمها, موضحا له استعداد حكومة مصر لتحمل نصيب مناسب في هذه العملية الإنشائية التي تفوق الخيال. وكان مما أثار حماسته وإقناعي له بأن مقترحاتي هذه تكاد تكون بمنزلة (هدية) إلى اليونسكو تذيع معها ـ لو أنها تبنتها ـ شهرة المنظمة لتتطرق إلى وجدان كل فرد من أفراد البشر. ثم هي لاشك سابقة للمنظمة سيكون لها ماوراءها. وهذا ماحدث فعلا إذ ما كادت منظمة اليونسكو تفرغ من هذا المشروع حتى شاركت في غيره. ودارت المناقشة ساعات ثلاث, وإذا هو يبعث في نفسي الأمل حين همس في أذني بالمثل القائل: إن الحياة إلى زوال ولكن الفن خالد. فعقبت عليه أقول: ولكن ألا ترى أن أسلافنا كانوا يؤمنون بأن الحياة والفن متلازمان لا بقاء لأحدهما إلا ببقاء الآخر؟ وبتلك النظرة من السلف إلى الفن نتقدم إلى اليونسكو بهذا المشروع الذي هو أكبر من أن تضطلع به دولة بمفردها, لاسيما وهي تمر بفترة تنمية تواجه فيها هموما أساسية ينبغي عليها تذليلها, وليس أمامنا غير التعاون الدولي. وحين وجدت منه استجابة لما عرضت وإحساسا منه بمخاوفي ردت إليّ طمأنينتي. ولقد قدرت له قلقه هو الآخر على ضياع تلك الآثار في غمرة الغرق وإيمانه بضرورة مد يد المنظمة لتشارك في تحقيق الأمل. هنا أيقنت أن العناية الإلهية وحدها هي التي أتاحت لي أن ألتقي هذه الشخصية التي تجمع بين الود الصادق والفكر الثاقب. لقد غمرتني فرحة أيما فرحة حين وجدت منه ذلك الاستعداد المبدئي للمشاركة. ليس ذلك فحسب بل إنه بدا ـ تواضعاً منه ـ وكأنه الشاكر لا المشكور, وكأنه في هذا يردد قول الشاعر:
شكرا لك يا أخي إذ منحتني دفء أخوتك
شكرا لك إذ أزكيت شجاعتي بثقتك
شكرا ليس فوقه شكر, إذ أتحت لبرهة من حياتي أن تنبض بحلم كبير
شكرا لك إذ هيأت لي فرصة مساعدتك
فوهبتني منحة الخلاص
صحبت رينيه ماهيه إلى المطار حيث استقل طائرته في الثانية صباحا, ومضى إلى باريس بعد أن استمهلني ثمان وأربعين ساعة ليعرض فيها اقتراحي على السنيور فيتورينو فيرونيزي المدير العام لليونسكو ويخطرني بعدها بما يستقر عليه الرأي. وهمست في أذنه مودعا على باب الطائرة وأنا أعطيه نسختي من كتاب (موت فيله) لبيير لوتي الذي كنت قد حملته معي لكي يقرأه, مؤمنا أنه هو الآخر داعية قدير لنفس القضية التي باتت أهم ما يشغلني على المستويين الحضاري والوظيفي. همست في أذنه: فلتتضافر أيدينا كي نسحب المياه من تحت قدمي إيزيس, عسى أن نضيف يوما خاتمة لكتاب (موت فيله) بعنوان (بعث فيله). ولم تكد تمضي اثنتا عشرة ساعة حتى سمعت رنة الهاتف, وما كدت أرفع السماعة حتى فاجأني صوت رينيه ماهية يحدثني من باريس بأنه قد عرض اقتراحي على المدير العام. وما انتظر ردي المتلهف على سماح النتيجة حتى تابع حديث بقوله: إليك هو ليحدثك بنفسه. فاستمعت إلى السنيور فيرونيزي يزف إلي نبأ اقتناعه بالمشروع, وبأنه على استعداد لعرضه على المجلس التنفيذي لليونسكو إذا ما تسلم طلبا رسميا من الحكومة المصرية. ومالبثت أن تسلمت رسالة من رينيه ماهية في أواخر شهر يناير 1959 يبلغني فيها رسميا استعداد منظمة اليونسكو للقيام بدراسة الوسائل العلمية لحماية تلك الكنوز الفنية والتاريخية طالبا التفاصيل الخاصة بكلفة المعونة المطلوبة.
كانت هذه الخطوات السالفة كلها من وحي ضميري ومن وازع نفسي لا أستملي فيها عن أحد, فلقد كان الله من ورائي في جميع خطواتي يسددها ويوفقني إلى مافيه الخير.
وجدتني لابد لي قبل البدء فيما أنا مقدم عليه من أن أظفر بموافقة رئيس الجمهورية وتأييده, فأسرعت لكي ألقى الرئيس جمال عبد الناصر رحمه الله, الذي أنصت إليّ طويلا وكأنما أحدثه عن حلم عصي على التحقيق, ثم التفت إليّ مبتسما وهو يخال أن ما حدثته به خيالاً وجموحا وشططا, وإذا أنا يتمثل أمامي لحظتها إقدامه على بناء السد العالي, فقلت له: ياسيادة الرئيس إن ثورة مصر التي تمضي في جرأة وشجاعة لبناء المستقبل يجدر بها أيضا أن تلتفت إلى آثار الماضي فتحميها وتحفظها.. وإذا أنا أرى على وجهه مسحة من الطمأنينة, وإذا هي تغشي صوته, فيتساءل عما يكون من ضمان للتعاون الدولي وسط الظروف السياسية العاصفة التي كنا نمر بها وقتذاك. وحين أحس مني رحمه الله إيماني الصادق العميق بما في الإنسانية من كرم ينبعث دوما مع القضايا النبيلة, وبأنه مما لاشك فيه أن منظمة اليونسكو ستضطلع بعبئها في إنقاذ تلك الآثار الإنسانية التي تعني العالم أجمع على أي صورة كانت وفي أي بلد قامت, بدأ حديثي يستميله, وأخذ يسألني ترى كم سيكون نصيب مصر في هذا المشروع ؟ فأجبته أن هذا السؤال سابق لأوانه, إذ لم تحدد بعد نوعيات مشروعات الإنقاذ وتكاليفها, ولكن مانستطيع أن نفعله الآن هو أن نتعارف على نسبة معقولة تكون من نصيب مصر, لكي يرى العالم أننا جادون في إنقاذ تراثنا, وأننا لن نكون عالة على غيرنا. وانتهينا أخيراً إلى أن تكون نسبة إسهام مصر في حملة الإنقاذ هي الثلث. ولم يلبث بعد أن عرف تفاصيل المشروع أن باركه, فما إن سمعت هذه الموافقة اطمأننت الاطمئنان كله ودعوته لزيارة معبدي أبوسمبل, وعرضت الأمر على المجلس الأعلى للآثار الذي سرعان ماظفرت بتأييده وتشجيعه.
تلك كانت بداية القصة, فلقد كانت الجهود كلها قد انتهت إلى الاكتفاء بتسجيل آثار النوبة ومعابدها فحسب, فإذا هذا المشروع الجديد الذي أقدمت عليه وغامرت به تحت إلحاح من إحساسي بالمسئولية يتناول شيئا لم يكن, فقلب الأمور رأسا على عقب, وإذا هو مشروع للإنقاذ لا للتسجيل, ومشروع لحفظ الآثار ظاهرة على وجه الأرض لامودعا إياها لتبتلعها المياه وتصبح أثرا بعد عين.
ألا ما أكثر التحديات التي واجهتنا عند تنفيذ هذا المشروع فلم تثننا عن المضي فيما أخذنا فيه عقبات كثيرة يضيق بها الحصر, بدءاً بالظروف الدولية العسيرة التي اكتنفت الحملة الدولية لإنقاذ آثار النوبة, والصراع المرير بين الكتل الدولية في العالم, وإصرار مصر على استقلالية مواقفها إزاء الأحداث السياسية العالمية, ثم اعتماد الحملة الدولية على المساهمات الاختيارية وتركها الأمر لكل دولة لتقرر موقفها منها, وما يثقل كاهل بعض الدول من التزامات, وماتتعرض له بعضها من أزمات. ثم ضخامة المشروع نفسه والتحدي الذي انطوى على تغيير شامل في طبيعة المنطقة, وانتزاع معبد كامل من بطن الجبل ومن زحف مياه النيل عليه والارتفاع به أكثر من ستين مترا, وإعادة إقامته في مكانه الجديد, ثم إحاطته بهضبة جبلية ليعود أقرب مايكون إلى طبيعته الأولى, ثم احتياج المشروع إلى أعلى كفاية فنية للإشراف عليه والاطمئنان إلى سلامة تنفيذه, وارتياب دول العالم في إمكان تنفيذ ذلك على الوجه المرضي حتى ولو كان واقعا في أرض دولة من الدول المتقدمة, ثم الظروف الشاقة التي تركت فيها منطقة النوبة بعد تهجير أهلها واستحالة الحياة فيها إلا بجهد كاد أن يكون أسطوريا, ثم تيسر ظروف العمل والحياة لآلاف من الفنيين, بينهم عدد كبير من الأجانب. وفضلا عن ذلك كله بعد الشُّقة وقسوة الطبيعة وسوء الأحوال الجوية في شهور الصيف القائظة مع برنامج صارم لتنفيذ مراحل السد العالي لاينى أو يتراخى. وإلى جوار هذا أيضا مواقف دولية في المساهمة مترددة, وكثير منها وعود, وعملات حرة مطلوبة بلا رصيد أحيانا. كل ذلك كان يمثل عقبات لابد من أن تكون في الاعتبار أثناء المضي في المشروع. لكن مصر صمدت أمام جميع تلك العقبات والمصاعب التي اعترضتها, فلقد كانت بين يدي تجربة تمس كرامتها وعزتها وتستنفر عراقتها, ومضت الأعمال منذ اللحظة الأولى لاتتوقف, في القاهرة حيث مركز التوجيه, وفي أنحاء النوبة وفي أبوسمبل خاصة حيث العمل يجري في سباق مع الطبيعة والنيل, والثقة تملأ قلوب العاملين, فلم يتوقف العمل لحظة حتى إبان محنة يونيه 1967 إلى أن كللت الجهود الصادقة بالنجاح وتم إنقاذ المعبدين. ففي يوم 22 سبتمبر 1968 شاعت في سماء مصر وأرضها أنسام فرحة غامرة, فرحة النجاح في انتزاع أجمل آثار حضارتنا القديمة من يد الفناء والصعود بمعبدي أبوسمبل إلى منصة الخلود, تلك المنصة التي التقت على صنعها أياد من مختلف أنحاء العالم ضمها تعاون صادق وإيمان عميق بقيمة الثقافة وأهمية الأوابد الفنية, والتقاء روحي حار يذوب معه اختلاف اللغات والأجناس والأديان, ولايطل فيه غير وجه الإنسان بنقائه وسموه. ولولا ما كان يشوب نفوسنا من مرارة هزيمة يونيه 1967 لجاءت فرحتنا كاملة بهذا النصر الثقافي الشامخ.
على أن إنقاذ معبدي أبوسمبل لم يكن هو كل ماحدث في بلاد النوبة حيث تناثر التراث الأثري في كل مكان من هذه الساحة الشاسعة. ولكن الشيء الجدير بالتسجيل هو أنه قد تم إنقاذ معابد النوبة السبعة عشر جميعا وأعيدت إقامتها في مواقع متفرقة.
على أن مصر تعرف أيضا كيف ترد الجميل فإذا هي تهدي معبد دابود لحكومة إسبانيا ومعبدطافا لحكومة هولندا ومعبد الليسيه لحكومة إيطاليا ومعبددندور لشعب الولايات المتحدة الأمريكية تقديراً لما نالته من مساهمة كبرى على أيديه.
ومن قبيل قدرة مصر على رد الجميل لمن يسدي يداً إلى تراثها العريق ولتقيم بهذا الدليل الحي على حضارتها في أراض متفرقة من الدنيا وبين شعوب مختلفة من العالم, أنها كانت صاحبة المبادأة بين الدول الأعضاء في اليونسكو التي نادت بضرورة إنقاذ مدينتي البندقية وفلورنسا وماتحويان من كنوز إزاء المخاطر التي تعرضت لها. بل ولقد كان الرئيس عبد الناصر وفياً عندما أذن لي قبل أن أعلن هذه المبادرة في المجلس التنفيذي لليونسكو الذي كنت أتشرف بعضويته لثمان سنين بأن مصر تضع تحت تصرف المديرالعام لليونسكو أول مبلغ تلقته المنظمة الدولية لإنقاذ آثار فلورنسا عام 1967 تلاه مبلغ آخر في عام 1969. وحين انتخبت بعد ذلك نائبا لرئيس اللجنة الدولية لإنقاذ البندقية لم أتردد لحظة في القبول وتطوعت للعمل بها ما ينوف على سنوات عشرا. وحين أصدرت منظمة اليونسكو لحسابتها كتابي (رمسيس يتوج من جديد) باللغة الفرنسية الذي تناول فيه بالشرح والتحليل جميع مراحل حملة إنقاذ آثار النوبة تنازلت بدوري عن جميع حقوقي المادية والأدبية لمصلحة مشروع إنقاذ مدينة البندقية, فمصر تؤمن بأنه مما يثري حضارة أمة قدرتها على الأخذ والعطاء معا.
وحسبي أن أتلو فقرة من خطاب مدير عام اليونسكو في مؤتمر الدول المشتركة في إنقاذ معابد فيله بالقاهرة في 19 ديسمبر 1970 بلور فيها قيمة الحملة الدولية فإذا هو يخاطبني قائلا: (والآن التفت إليك لأقول لقد كنت أنت صاحب فكرة الحملة الدولية التي تقودها منظمة اليونسكو, وكان ذلك في شهر يناير 1959 عندما حدثتني عنها لأول مرة, فأيقنت عندها أن الأمر بالنسبة لك لم يكن يعني فقط ـ أو حتى أساسا ـ مجرد وسيلة لجمع الأموال اللازمة, بل إن الأهم في نظرك ـ وفي نظري أنا الآخر ـ هوالدلالة المعنوية للمشروع, والقيمة الثقافية العالية لمصلحة الإنسانية جمعاء. ومنذ ذلك الوقت وعلى مدى أحد عشر عاما ذلل تصميمك كل العقبات ومكننا إيمانك بالتعاون الدولي من القيام معا بهذا المشروع, ومن إتمام ما كان يبدو لأول وهلة يوتوبياً. وأنا لا أعني الأحجار العريقة التي تم إنقاذها بقدر ما أعني الاستجابات الجديدة التي تشكلت في عقول الناس وفي قلوبهم. لقد أصبح الحلم حقيقة وفكرة التراث الثقافي المشترك للإنسانية ـ تلك الفكرة التي كانت بالأمس مجرد تصور غامض ـ اتخذت منذ هذه اللحظة فصاعدا شكلا أكثر تحديداً في الضمائر بينما أعطى التعاون العالمي برهاناً ساطعا على فعاليته).
ألا ما أبعد هذه الصورة الرفافة بعد إنقاذ معبد فيله ـ آخر معابد النوبة ـ عن الوضع الذي شهده بيير لوتي في مطلع هذا القرن حين ظنها تسلم أنفاسها الأخيرة, والماء يعلو رويدا رويدا ليبتلع كل يوم مزيدا من جسدها العملاق. غير أن ثورة يوليو 1952 التي أقامت السد العالي لم تشأ لهذا الجزء من حضارة الوطن أن يندثر أو أن يتخطفه ملك الموت في زحمة انشغالها بهموم المصريين. فلم يكد جسد السد العالي يكتمل حتى هرعت نفس الأيادي وبنفس الحماسة لتركز أسوار الحديد الهائلة حول الجزيرة لتعصمها من الطوفان, ثم لتسحب المياه من تحت قدمي إيزيس وتصعد بها بعد ذلك إلى قمة جزيرة إيجيليكا كي ترفرف من جديد راية من رايات الحضارة الإنسانية خالدة. ليت بيير لوتي يبعث من موته ليشهد بعينيه كيف بعثت إلى الحياة معابد فيله, وإذن لأضاف إلى كتابه ـ كما تنبأت ـ خاتمة بعنوان (بعث فيله), فلم تكن اللحظة التي شاهدها لوتي هي لحظة (موت فيله) بل كانت لحظة التأهب للعودة إلى الحياة من جديد.
كم أحس اليوم بالرضا كله حين أرى هذا المشروع الضخم الذي سعيت إليه يوما, والذي استغرق أعواما أحد عشر ينتهي إلى ما انتهى إليه من نجاح. لقد كان من بين مشروعات الوزارة كلها أكثرها إلحاحا عليّ, حتى لقد كان طوال هذه السنوات محط اهتماماتي, فكانت كثرة أسفاري في مناحي العالم المختلفة من أجله, وأكثر لقاءاتي مع أهل الثقافة والسياسة العالميين في سبيله. لم تشغلني مشكلات الحقل الثقافي رغم إلحاحها وكثرتها وتعقدها عنه, ولم تصرفني ليلة عن متابعة خطواته, فقد جعلت منه مسئوليتي الأولى بقدر ما كان أملي الذاتي. وكنت شديد الإيمان بالنجاح يشدني إلى ذلك إصرار بأن عليّ واجبا يدفعني مع غيري لأن نحفظ للأجيال القادمة أثراً من أعظم ما أنجزته أيدي آبائنا الأولين, أقاموه يوم كانت البشرية تتلمس طريقها نحو مأوى تسكنه في كهوف الجبال, وكانت مصر تنحت للخلود معابد تسكن فيها الروح وتحيل الصخر إلى متحف للفن والجمال. وما من شك في أن هذا المعنى هو الذي حدا بمن تعاونوا معنا لبذل أقصى التضحيات لتحقيق هذا الأمل النبيل.